الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن
.بنو إسرائيل والأرض المقدسة: 82 - لم يكن بنو إسرائيل في عهد موسى إلّا قومًا أذلَّهم الخضوع وضربت عليهم الذلة، وأمرضتهم الطاعة الذليلة التي كانت رقًّا أو ما يشبهه، وقد بدا ضعف نفوسهم في عهد موسى، فقد أراد أن يدخل بهم الأرض المقدسة، فضعفوا ووهنوا وتلمَّسوا لأنفهسم المعاذير، وما هي إلَّا معاذير المستكين المؤثر للاستكانة، والرضا من الحياة بأدناها.طلب منهم موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يدخلوها، ولنسمع إلى كتاب الله تعالى يحكي حالهم من الجبن والخنوع والذل.قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، يَا قَوْم ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 20 - 26].هذا نص القرآن الكريم في قصة جُبن اليهود وتخاذلهم على أن يدخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله سبحانه وتعالى - عليهم أن يدخلوها، ويجب أن ننبه هنا أن المراد أنَّ الله تعالى كتب عليهم أن يدخلوها، لا أنه كتبها لهم ملكًا دائمًا مستمرًّا باقيًا يطلبون بحقه، وأنَّ ذلك هو مفهوم الكتابة، ويستفاد من النص الكريم ذلك أنَّ النص الكريم ليس فيه أنه كتبها لهم، بل كتب فقط عليهم أن يدخلوها؛ إذ يقول سبحانه عن طلب موسى منهم الدخول: {يَا قَوْم ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، فالكتابة التي فرضها الله تعالى هي الدخول وهو واجب وليس بحق، فلم يكتب لهم أرضًا، بل فرض عليهم أمرًا، بدليل عودة الضمير على الدخول المكتوب لا على الأرض.وإن منطق الحوادث يوجب عليهم أن يدخلوها؛ ليقيموا فيها شعائر الموسوية؛ إذ إنهم خرجوا من مصر لعدم صلاحيتها لِأَنْ تقوم فيها شرائع موسى، كما لم تصلح مكة لِأَنْ تكون موطن الشرع الإسلامي إلّا عبد تحطيم الأوثان، وأن يمنع المشركون من دخولها؛ لأنهم نجس لا يدخلون المسجد الحرام بعد عامهم.وإن دخولهم فيها كان لأجل إقامة التوراة فيها، وجعلها الحكم الذي لا ترد حكومته، وما كانت لذواتهم، فلم تكن لأنهم بنو إسرائيل، بحيث يكون الاستحقاق ذاتيًّا، أو ميراثًا يرثه الأخلاف عن الأسلاف، وقد انتهى عهد موسى، وانتهى شرعه، وحالت أحوالهم وتغيَّرت أمورهم، وليست الأرض ميراثًا يؤخذ، إنما الأمر هو الدخول لإقامة الشريعة الموسوية، وقد نُسِخَت بشريعة محمد، فصارت الخلافة النبوية إلى محمد خاتم النبيين، فقومه الذين يقيمون شرع الله هم أهلها، والذين يجب عليهم أن يدخلوها آمنين مطمئنين، فليست أرض الله ميراثًا يورَث للذوات، إنَّمَا هي مقام الشرع الناسخ لا المنسوخ.ويلاحظ من بعد ذلك أمور ثلاثة قد أشارت إليها الآيات الكريمات:أولها: إنَّ الاسترخاء والضعف النفسي قد أصابهم بسبب ترفهم أولًا، واستضعافهم ثانيًا، وطغيان فرعون في حكمهم ثالثًا، وبأنَّهم حرموا حب الفداء، وإذا حرم قوم حب الفداء هانت عليهم أنفسهم ورزقوا الوهن، وكذلك بنو إسرائيل، فقد خافوا من غير مخوف، وماتت فيهم النخوة، كما تدل الآيات الكريمات.وثانيها: إنَّ ضعفهم أفقدهم قوة الإيمان، والشك في حكم الديَّان، حتى إنهم ليقولون لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. وذلك تهكُّم يدل على وَهَن إيمانهم، كما وهنت نفوسهم.وثالثها: إنَّ الأمم لا تتربَّى إلَّا بتعوّد خشونة العيش، كما تعوَّدت نعومته، وأن تذوق جشبه كما ذاقت حلاوته، ولذلك بَيِّنَ الله سبحانه وتعالى - أنه لا يمكن أن يدخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله تعالى عليهم أن يدخلوها، فقال سبحانه: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ}.وهذا كما يبدو من الآية تحريم كوني، أي: إنَّه لا يمكن أن يستطيعوا الدخول إلى الأرض المقدسة مقاتلين مجاهدين إلَّا بعد أن يذهب عنهم ذل الوهن، ويأتي جيل جديد قد ذاق طعم الشدة، وعلم الحياة نضالًا، ولم يعلمها استكانة وضعفًا، والتقدير بالأربعين لا أحسب أنه يقصد به العدد، ولكن يقصد به الكثرة التي تنشئ جيلًا تربَّى في شظف العيش وصلابة الحياة وقسوتها.ولقد أخذ هذه الحقيقة القرآنية ابن خلدون، وجعل أساس قوة الأمم شدة الحياة وصلابتها، فإنها إذا استرخت أدال الله منها بقوم أولي بأس شديد تربَّوا في البداوة، وذاقوا بأسها..قصص القرآن لون من تصريف بيانه: 83 - ذكرنا أنَّ البيان القرآني فيه تصريف القول على ألوانٍ متعددة متباينة في حقيقتها متلاقية في غياتها، ولا يمكن أن يكون لكلام بشر مع سموِّ البلاغة وبلوغها المقام الذي يناصى في كل أصنافها، بل لا يمكن أن يبلغ الغاية في صنف واحد من أصنافها، وقد ذكرنا ما في القرآن من إطناب من غير تكرار، وذكرنا ما يتوهم فيه التكرار في القصص، وبيَّنَّا أنه لا تكرار يعد ترديدًا ولو على سبيل التوكيد، وما يتوهم فيه التكرار إنما هو تجديد المعنى لغاية أخرى ومقصد آخر، وكان الذكر لما يتوهم تكراره فيه كمال المعنى، ولا يمكن أن يستغنى القول عنه، إنما التكرار المردود يكون فيما لو حذف المتوهم تكراره ما نقصت الغاية، وما اختل بيان المقصد، وتكرار القرآن ليس على هذا، بل هو تكميل لا بُدَّ منه، وتتميم لا يستغنى عنه، وذلك يكون في القصص، وفي الاستدلال بآيات الله تعالى الكونية، على وحدة من خلق وكون وأبدع، وقد ضربنا على ذلك الأمثال.والان نذكر القصص القرآني على أنه لون من تصريف البيان القرآني، وتغير أشكاله كما ذكر الله تعالى في القرآن: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}.إن القصص القرآني فيه العبرة، وما ذكرت قصة إلّا كان معها عبرة أو عِبَر، وفيها المثلات لمن عصوا وتركوا أمر ربهم، وفيها بيان ما نزل بالأقوياء الذين غرهم الغرور، والجبابرة الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، والله من ورائهم محيط.وإن القصص فيه إيناس صاحب الرسالة المحمدية بأخبار إخوانه من المصطفين الأخيار، وإثبات قوله، فقد كانت تلك الأخبار الصادقة ما كانت لتعليم إلا لمن شاهد، وما شاهد أحداثها وهو لا يزال في بطن الغيب، كما قال سبحانه وتعالى - عقب قصة مريم: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] وكما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام ووقائعها، قد قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 44 - 46].لم يكن محمد مشاهدًا الأحداث التي جاء القرآن الكريم بقصصها، وهي صادقة وثابتة في الصادق من أخبار النبيين في كتبهم التي يتداولها أهل الكتاب، ولم يتناولها التحريف.ولم يكن بمكة مدرسة لاهوت، بل لم يكن بمكة يهود ولا نصارى إلا خمَّار ألحدوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منه كذبًا وبهتانًا، فقال الله تعالى ردًّا عليهم: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].وكانت مكة بلدًا أميًّا، ليس به علم، ولا رياسات، إلّا مباريات رياسية في البيان، وكان محمد صلى الله عليه وسلم أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].لذلك نقول: إن القصص القرآني ذاته فيه إعجاز ذكره الكتاب جاء على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب؛ إذ هو النبي الأمي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.ويتساءل أيّ تالٍ للقرآن: من أين جاء محمد بهذا القصص الحق، وهو لم يشاهد وقائعه، ولم يقرأها؛ لأنه لم يكن قارئًا؟ إنه من عند الله العزيز الحكيم علَّام الغيوب، وبذلك كان القصص الصادق من التحدي.
|